الدين والدساتير حول العالم- ليس حكرًا على العرب والمسلمين

منذ أكثر من قرنين من الزمان، نادى الفيلسوف الفرنسي الشهير فولتير بتبني التسامح الإسلامي كمرشد وهدًى لأوروبا، وفي سياق حديثه عن أسباب هزيمة الغرب في العصر الحاضر، يذكر الفيلسوف الفرنسي المعاصر إيمانويل تود عبارته اللاذعة: "وصول المنظومة الدينية الغربية (البروتستانتية) إلى حالة من الإفلاس التام والهوس الدائم بالحروب التي لا تنتهي".
في هذا السياق المتشابك، يبرز سؤال جوهري حول تأثير ومكانة الإيمان والدين في حياة الشعوب، وكيفية ارتباطهما بالمنظومة التشريعية والقانونية.
ممّا لا شك فيه أن الإيمان يمثل قيمة روحية سامية يتمسك بها المؤمنون، مسترشدين بالتعاليم الدينية ومطبقين لها في شتى جوانب حياتهم. فالإيمان يمثل ركيزة أساسية في تحقيق السكينة والطمأنينة، وغرس الخشوع في النفوس، وتنظيم السلوك البشري. وهذا يوضح الأثر العميق للإيمان والدين على حياة الشعوب، ليس فقط في ترسيخ الاستقرار في المجتمعات على اختلاف معتقداتها ومذاهبها، بل أيضًا في دفعها نحو التقدم والازدهار.
تتنوع التوجهات الدستورية لدول العالم، فمنها دساتير تتجاهل موضوع الإيمان والدين ولا تتطرق إليه، ومنها دساتير تنص صراحة على النهج العلماني، الذي يمثل في هذه الحالة عقيدة الدولة ومنهجها الأساسي الذي تسترشد به تشريعاتها.
وهناك أيضًا دساتير توضح أن الدولة تتبع ديانة معينة أو تتبنى دينًا رسميًا أو تولي أهمية خاصة لديانة معينة باعتبارها دين الأغلبية. وفي المقابل، تشير دساتير أخرى إلى جوهر الإيمان بالله، عز وجل، سواء بشكل مباشر أو عن طريق إشارات ضمنية تدل على هذا الإيمان.
قد يتبادر إلى الأذهان أن الدول العربية هي الوحيدة التي تحرص على ذكر الدين الإسلامي في دساتيرها، واعتماده كمرجعية قانونية للتشريع، بل وتلزم من يتقلد المناصب الرئاسية باعتناقه.
إلا أن دراسة شاملة أعددت جزءًا منها أثناء مشاركتي في حوارات "اللجنة الدستورية السورية" عن المستقلين في وفد "قوى الثورة والمعارضة السورية" في الأمم المتحدة، تكشف أن الإيمان بالله، تعالى، وتبني الدين رسميًا ليسا حكرًا على الدول العربية والإسلامية، بل هما ظاهرتان راسختان في دساتير العديد من الدول الأخرى، بما فيها تلك المصنفة ضمن الدول الرائدة عالميًا من حيث الديمقراطية والازدهار الاقتصادي.
إذ تنص هذه الدساتير بكل وضوح على الدين الرسمي للدولة، بل وتفرض في بعض الأحيان أن يكون الحاكم منتميًا إلى دين معين أو مذهب محدد، على الرغم من أنها ليست دولًا دينية بالمعنى التقليدي المتعارف عليه.
وفي هذه الدساتير، يُنظر إلى الدين باعتباره عاملًا جوهريًا في تشكيل الهوية الوطنية، ومصدرًا للسكينة والأمان المجتمعي، بل ومبعث فخر واعتزاز لهذه الدول وشعوبها، سواء كانت هذه الأديان من الأديان السماوية التوحيدية، أو من الشرائع الأخرى. وفيما يلي أمثلة لنصوص من دساتير دول غير عربية، لا تزال سارية المفعول ويتم العمل بها.
أولًا: دساتير لدول غير عربية من آسيا
تُظهر دساتير العديد من الدول الآسيوية المكانة الرفيعة التي يحظى بها الدين في أنظمتها. فإندونيسيا تؤكد في مقدمتها على أن الدولة تقوم على الإيمان بالله الواحد الأحد، بينما تنص ماليزيا على أن "الإسلام هو دين الاتحاد"، مع التأكيد على ضمان حرية ممارسة الأديان الأخرى. وتحدد باكستان الإسلام كدين للدولة، فيما تطلب الفلبين عون الله في ديباجتها.
وفي كمبوديا، يقر الدستور بأن "البوذية هي الديانة الرسمية"، ويتضمن شعارها الوطني عبارة "الأمة، الدين، الملك". أما تايلند، فيلزم ملكها بأن يكون بوذيًا، مع التزام الدولة بدعم البوذية وتعليمها. وبالمثل، تمنح سريلانكا البوذية المقام الأول، مع التعهد بحمايتها ورعايتها.
ثانيًا: دساتير من دول غرب آسيا وشرق أوروبا
كما تبرز دساتير دول غرب آسيا وشرق أوروبا مكانة الدين وأهميته في الهوية الوطنية والإطار القانوني.
ففي أرمينيا، وبالرغم من الفصل الرسمي بين الكنيسة والدولة، يعترف الدستور بالكنيسة الأرمنية الرسولية المقدسة بصفتها كنيسة وطنية، ويقر بدورها المحوري في الحياة الروحية والثقافة الوطنية.
أما جورجيا، ففي الوقت الذي تكفل فيه الحرية الدينية، يعترف دستورها بالدور المتميز للكنيسة الأرثوذكسية الجورجية في تاريخ البلاد، وينظم علاقتها بالدولة من خلال اتفاقية دستورية خاصة.
وفي بلغاريا، ورغم التأكيد على فصل المؤسسات الدينية عن الدولة، تعتبر المسيحية الأرثوذكسية الشرقية "الديانة التقليدية" للبلاد.
أما بولندا، فيتجلى الدين بوضوح في ديباجة الدستور، التي تستلهم القيم المسيحية، مع الاعتراف بحقوق المؤمنين وغير المؤمنين على حد سواء. وتنص مواد الدستور على احترام استقلالية الكنيسة الكاثوليكية والمنظمات الدينية الأخرى، مع إتاحة تدريس الدين في المدارس وفقًا للقانون.
ثالثًا: دساتير أوروبا الغربية
وبالمثل، تعكس دساتير متنوعة في أوروبا الغربية حضور الدين كمكون أساسي في الهوية الوطنية والمنظومة القانونية. ففي المملكة المتحدة، وعلى الرغم من عدم وجود دستور مدون، تحتفظ الدولة بعلاقة تاريخية عريقة مع الكنيسة الأنجليكانية، ولا يزال الملك يحمل لقب "الحاكم الأعلى لكنيسة إنجلترا".
أما النرويج، فتنص مواد دستورها على أن القيم الوطنية تقوم على التراث المسيحي، ويُشترط أن يكون الملك منتميًا إلى الكنيسة الإنجيلية اللوثرية، التي تظل الكنيسة الوطنية الرسمية.
وفي ليختنشتاين، تعتبر الكنيسة الكاثوليكية كنيسة الدولة وتحظى بحماية كاملة، كما تضطلع الدولة بدور فاعل في دعم التعليم الديني.
أما لاتفيا، فتؤكد ديباجتها على القيم المسيحية باعتبارها جزءًا لا يتجزأ من هويتها الثقافية، بينما تولي أيرلندا مكانة رفيعة للمسيحية في دستورها، وتعترف بأن الدين العام هو "إجلال لله الأعظم".
آيسلندا تُحدد الكنيسة اللوثرية ككنيسة الدولة، وتحظى بالدعم الرسمي، بينما يقر دستور إيطاليا بسيادة واستقلال الكنيسة الكاثوليكية، ويكفل حرية ممارسة الأديان الأخرى.
وفي ألمانيا، يُستشهد في الدستور بمسؤولية الدولة أمام الله، ويؤدي الرئيس اليمين مع إمكانية إضافة عبارة دينية. أما الدنمارك، فتُعتبر الكنيسة اللوثرية الدين الرسمي، ويلتزم الملك بأن يكون عضوًا فيها.
وعلى الرغم من علمانيتها، تشير فرنسا إلى "الموجود الأعلى" في إعلان حقوق الإنسان والمواطن، بينما تعلن موناكو ومالطا أن الكاثوليكية واليونان الأرثوذكسية ديانات رسمية للدولة.
وأخيرًا، يبدأ دستور سويسرا بالقول "باسم الله القدير"، ويترك تنظيم العلاقة بين الدين والدولة للمقاطعات، لكنه يحظر بناء المآذن، مما يعكس تفاعل الدين مع التشريعات الوطنية.
رابعًا: دساتير في القارة الأميركية
وفي القارة الأميركية، يظهر حضور الدين بوضوح في الهوية الوطنية والتشريعية. ففي الأرجنتين، تدعم الحكومة الكاثوليكية كعقيدة رسمية، بينما يؤكد دستور كندا أن الدولة قائمة على "سمو الله وحكم القانون".
وفي كوستاريكا، تعلن ديباجة الدستور ارتباط الدولة بالله، وتُحدد الكاثوليكية كدين رسمي، مع ضمان حرية المعتقدات الأخرى. أما بنما، فتشير إلى "حماية الله" في ديباجتها، وتعترف بالكاثوليكية كدين الأغلبية، مع إلزام تدريسها في المدارس العامة، لكن مع خيار عدم الحضور بناءً على طلب أولياء الأمور.
أما هندوراس، فتبدأ ديباجتها بالإشارة إلى "الحماية الإلهية"، في حين تعترف السلفادور بالشخصية القانونية للكنيسة الكاثوليكية، مع إمكانية الاعتراف بالكنائس الأخرى وفقًا للقانون.
وفي باراغواي، تستعين الديباجة بالله، بينما تؤكد القوانين حرية الدين والعبادة، مع تنظيم العلاقة بين الدولة والكنيسة الكاثوليكية على أساس التعاون والاستقلالية.
وأخيرًا، في بيرو، يبدأ الدستور بالتوسل إلى الله، ويعترف بالدور التاريخي والثقافي للكنيسة الكاثوليكية، ويؤكد تعاون الدولة معها، مما يعكس التأثير العميق للدين في تشكيل هياكل الحكم في العديد من دول القارة.
خامسًا: دساتير من القارة الأفريقية
في القارة الأفريقية أيضًا، يظهر حضور الدين في الهوية الوطنية. ففي جنوب أفريقيا، تفتتح ديباجة الدستور بالدعاء "حمى الله شعبنا"، بينما يعلن دستور زامبيا أن الدولة "أمة مسيحية"، مع التأكيد على حرية المعتقد والوجدان، مما يبرز التداخل الوثيق بين الدين والتشريع في هذه الدول.
النتائج
مما سبق، نؤكد أن العديد من الدساتير في مختلف أنحاء العالم وقاراته لم تتجاهل ذكر الله، عز وجل، وقدسيته، بل تستعين به، وتطلب حمايته، وتقسم باسمه، كما هو واضح في الأمثلة المذكورة أعلاه من نصوص دساتير دول العالم المختلفة، وهناك أمثلة أخرى غيرها.
ومن المؤكد أنها ليست دولًا دينية بالمعنى المتعارف عليه، بل إن بعض الدول الكبرى اتخذت من ذلك شعارًا لها، حتى وإن لم ينص عليه الدستور، كما هو الحال في الولايات المتحدة الأميركية، حيث تتردد عبارة "بالله نثق"، هذا الشعار المطبوع على العملة الوطنية "الدولار"، والذي نجده في قاعات المحاكم، مما يؤكد على حاجة الإنسان إلى الإيمان بالله تعالى الخالق القدير والتعبير عن هذا الإيمان الذي لا يفارق الوجدان الحر.
هناك دول في هذا العالم تتبنى نهج العلمانية المتطرفة، لكنها لم تستطع أن تغفل عن ذكر الله، عز وجل، والتعبير عن الإيمان الوجداني الداخلي بهذا الذكر، على الرغم من كل مظاهر العلمانية.
إن ذكر الإيمان والدين في الدستور ليس قاصرًا على الدول العربية أو الإسلامية، بل هو أمر تشترك فيه دول عديدة.
والعديد من دول العالم، وبعضها من الدول التي تحتل مكانة مرموقة من حيث التقدم، والتطور، والرخاء، والرفاهية، والديمقراطية، قد تبنت الدين والمذهب في دساتيرها ونصت عليه صراحة، لأنه جزء من عقيدتها الراسخة التي تؤمن بها، والتي تعبر عن هويتها وثقافتها الأصيلة، وتعتبره مصدر فخر واعتزاز ورمزًا لوجودها واستمرارها، ومنظومة قيمها التي تعتز بها. ولا يوجد في ذلك أي عيب أو حرج، بل هو إبراز لمكانتها المميزة بين الأمم، وهذا حق يستحق الاحترام والتقدير.
وانطلاقًا من هذا المنطلق، وإدراكًا لأهمية الأديان في حياة البشر، اتخذت الجمعية العامة للأمم المتحدة القرار رقم 65/224 بتاريخ 21 ديسمبر/كانون الأول 2010، بعنوان "مناهضة تشويه صورة الأديان"، وأشارت فيه بقلق بالغ إلى تصاعد وتيرة الحملات التي تهدف إلى الحط من شأن الأديان والتحريض على الكراهية الدينية بشكل عام، وأقرت بأن الحط من شأن الأديان والتحريض على الكراهية الدينية يفضي إلى تفاقم حرمان المجموعات المستهدفة من حقوقهم وحرياتهم الأساسية واستبعادهم الاقتصادي والاجتماعي.
وأعربت عن بالغ قلقها إزاء الربط المتكرر والخاطئ بين الإسلام وانتهاكات حقوق الإنسان والإرهاب، وشددت على وجوب احترام جميع الأديان، وأدانت جميع أشكال ومظاهر العنصرية، وحثت جميع الدول على توفير الحماية من جميع أعمال الكراهية والتمييز والتخويف والإكراه الناجمة عن الحط من شأن الأديان، وذلك في إطار نظمها القانونية والدستورية، كما حثت على تعزيز التسامح واحترام جميع الأديان، ووضع استراتيجيات فكرية وأخلاقية لمكافحة الكراهية والتعصب.
ولا يمكن لأي سلطة تشريعية أن تتجاهل مطالب الشعب، وتطلعاته نحو تحقيق طموحاته، والتعبير عن هويته، وكل ما يخالج وجدانه ومعتقداته، مع احترام خصوصية جميع المكونات التي لا تتعارض مع السياق الوطني العام الذي يؤمن به أغلبية الشعب.
فجميع دول العالم تضم أقليات ومكونات عرقية ودينية وإثنية متنوعة، وتعمل هذه المكونات جنبًا إلى جنب مع الأغلبية في حماية الوطن وتعزيز قيم المواطنة، بما يحفظ الحقوق، بالرغم من وجود نصوص دستورية تعكس هوية الأغلبية وتوجهاتها، لأن الولاء والانتماء الحقيقي هو للوطن وليس لأي مفاهيم دخيلة أخرى، فالولاء الوطني وما يمثله من قيم سامية كالتسامح والاعتدال، والتي تعبر عنها الأكثرية، هو الأساس الذي لا يمكن تجاوزه، ولا يحق لأي مكون من المكونات أن ينتقص من حقوق الأغلبية ورغباتها وتطلعاتها، بل يجب أن يعمل معها جنبًا إلى جنب، لأن مختلف المكونات تشكل جزءًا أساسيًا من النسيج الاجتماعي الوطني العام.
إن الحقيقة التاريخية التي لا تقبل الجدل، والتي ما زالت قائمة حتى يومنا هذا، هي أن مجتمعنا، على مر مئات السنين، هو الذي حافظ على جميع المكونات بكل تنوعاتها، والتي تعيش بأمان واطمئنان كمواطنين أصليين في وطنهم ووطن آبائهم وأجدادهم، لهم نفس الحقوق وعليهم نفس الواجبات، وتواجدهم المستمر وبقاؤهم دليل قاطع على التسامح والاحترام المتبادل، ومطلوب منهم أن يقابلوا هذه الحقائق بنفس القدر من التقدير والاعتراف.
وبناءً على ذلك، فإن التشبث بمظهر من مظاهر المكونات أو الأقليات، وإثارة النعرات، واستغلال ذلك للحصول على امتيازات أو تمايز عن باقي أفراد الشعب، أو فرض إرادة فئة قليلة على بقية الشعب بهذه الحجة الواهية، أو أن يجعل البعض هذا المظهر ذريعة للغير للتدخل في الشأن الداخلي، أو طلب استدعاء لقوى خارجية بحجة الوجود أو حماية مكون ما، فإن هذا السلوك لا يبشر بالخير ويتعارض مع مبدأ الوطنية الجامعة التي يجب أن نعيش في ظلها وفي كنفها في وطن موحد.
إن الحرص على إعلاء شأن الوطن والمواطنة، وتقدير المعتقدات، وتعزيز القيم والأخلاق الحميدة، والتعاون البناء، وتبادل الاحترام، هو الضمان الأمثل لتحقيق الاستقرار المنشود، إذ لا تستقيم الحياة دون إيمان وقيم وأخلاق، والتي تعبر عنها الثقافة العامة للمجتمع وتعكسها التشريعات، مع احترام كامل للخصوصيات وحرية ممارسة الشعائر الدينية، بما يضمن السلم الأهلي والنظام العام والوحدة الوطنية.
إن سوريا بلد حيوي في هذه المنطقة من العالم، ولها تاريخ عريق، وتراث غني، وإرث حضاري كبير، وتنوع ثقافي جميل، ويجب أن تتبوأ مكانة مرموقة تليق بها، فهي تؤثر وتتأثر بهذا العالم، تأخذ منه وتقدم له كل ما فيه الخير والتقدم والازدهار، في مجتمع مزدهر يفيد ويستفيد، ويتفاعل مع خبرات الآخرين، ويأخذ بأسباب التقدم والتطور والرقي العلمي والتكنولوجي والاقتصادي، والتعاون في تحقيق الأمن والسلم الدوليين، بما يحفظ حقوق بلادنا ويصون وحدتها وسلامة أراضيها وسيادتها واستقلالها.
لقد بدأت الثورة السورية ضد نظام الأسد بشكل عفوي دون تخطيط مسبق، بتدبير إلهي حينما كان حدوثها مستبعدًا، ومر عليها ثلاثة عشر عامًا حتى كاد يخبو بريقها، وظن الجميع أنها قد انتهت، فإذا بها تبعث من جديد خلال أيام معدودات لتنتصر بتدبير الله، عز وجل، وتوفيقه، كما بدأت، وإن سوريا تعتز بما حققه شعبها الأبي في أطول ثورة على الطغيان والاستبداد والفساد عرفها العصر الحديث، وانتصار إرادة شعبها على نظام الطاغية وتحطيم الأصنام.
إن عقودًا طويلة من الزمان مرت على سوريا في تاريخها القريب، أمعن فيها النظام البائد بالتخريب والإفساد، وحولها إلى دولة اللادولة، وهو توصيف من الصعب قبوله، ولكن ما يتكشف لنا حاليًا يجعلنا أمام حقيقة مرة تتطلب منا جميعًا إعادة بناء الدولة من جديد، وهذا يتطلب جهدًا مضنيًا، ولتعيد سوريا المصالحة مع الشعب الذي عانى كثيرًا وقدم التضحيات الجسام، ومن حقه أن يرفع من شأن هويته الوطنية، وأن يقيم دولته على أسس العدل والمساواة، وأن ينهض بالمسيرة التنموية بما يحقق الازدهار والتقدم والحياة الكريمة لجميع المواطنين.
وبناءً عليه، نعتقد أنه من الأهمية بمكان أن يتم ذكر الإيمان بالله، تعالى، كشعار للدولة وكمبدأ أساسي تقوم عليه الدولة المدنية التي ننشدها ونطمح إليها وتحترمه، وأن تكون مبادئ الإسلام السمحة مرجعية قانونية وأخلاقية وتشريعية في دستورنا العتيد القادم. وذلك لأن هذه المبادئ القيمة، التي تتضمن الجانب العقائدي الإيماني وشعائره، والجانب العملي في الحقوق والمعاملات، تمثل نظامًا قانونيًا متكاملًا قائمًا بذاته ومعترفًا به دوليًا، ويتلاءم في الوقت ذاته مع متطلبات الحياة الحديثة وحماية حقوق الإنسان.
كما أن الإيمان بالله يعكس حقيقة التدين وتبلوره العميق في قلوب وعقول الناس في بلادنا، فهو يمثل قيمة إيمانية عظمى ترتبط بوجدان المجتمع رجالًا ونساءً، وتعبر عن التسامح في البعد المجتمعي والتطلع نحو إقامة دولة القانون والمؤسسات، حيث تُحترم قيم الكرامة والحرية والعدل للجميع، وهي القيم التي صانها الإسلام وأعلى من شأنها.
وبالإضافة إلى ذلك، فإن هذه المبادئ الفقهية تُعدّ كنزًا فكريًا ثمينًا حاضرًا على الدوام في حياة الناس، ومؤثرًا في توجيه سلوكهم، وله مكانة مرموقة تلازم تدينهم عبر العصور المختلفة.
ومن هذا المنطلق، ينبغي أن تتبنى الدولة مبدأ الشورى سبيلًا قويمًا، والديمقراطية سلوكًا راسخًا، والعدل منهجًا ثابتًا، بحيث يكون الشعب هو الموكَّل بممارسة السلطات، وهو أساسها ومصدرها الأصيل، مع اعتماد الفصل المرن والمتوازن بين السلطات، والتداول السلمي للسلطة، لضمان عدم الجور أو الظلم، في ظل سيادة القانون والمواطنة التي تكفل الحقوق العامة والحريات الشخصية لجميع المواطنين، رجالًا ونساءً، وكافة المكونات المجتمعية، وبما يحقق متطلبات السلم الأهلي.
ينبغي العمل بتكاتف وتعاون من أجل الإعمار والبناء، وتنمية المهارات، وإطلاق الطاقات والقدرات الكامنة، وتشجيع العلوم والابتكار، ومحاربة الفقر المدقع، وإصلاح المؤسسات الحكومية، ورفع مستوى التنمية المستدامة في جميع أنحاء البلاد، مع زيادة معدلات النمو الاقتصادي، وتحقيق مصالح الناس من خلال نهضة اقتصادية مستدامة في بيئة آمنة ومستقرة، مما ينعكس إيجابًا على مستوى دخل الفرد وتحسين جودة حياته.
كل ذلك ينبغي أن يتم في إطار نظام جمهوري تشاركي تداولي عادل، يستند إلى مبادئ الشرع الإسلامي الحنيف في الأسس المشار إليها، جنبًا إلى جنب مع مبادئ الأخلاق العامة والقيم الإنسانية المشتركة واحترام حقوق الإنسان، التي كفلها الإسلام وأعلى من شأنها، والتي ينبغي النظر إليها باعتبارها ضرورة حتمية لا غنى عنها.
وهذا كله يأتي بما يليق بكرامة الإنسان، الذي كرّمه الله، تعالى، دون تمييز أو تفريق، فالمعيار الحقيقي هو الإنسانية، لا أي شيء آخر، فقد فضّله الله على كثير من خلقه. بل إن هذه الحقوق الأساسية، المستمدة من التعاليم الإسلامية السمحة، ربما تكون أشمل وأعمق من تلك التي تعترف بها المواثيق الدولية والقوانين الوضعية.